فيما لو حققت المفاوضات مع كوريا الشمالية نجاحاً -وهذا ما يبدو- في كبح جماح هذه الأخيرة، وتحديها العلني لنظام حظر الانتشار النووي الدولي، فهل في هذه التجربة، ما يمكن الاهتداء به في التصدي لخطر توسع البرنامج النووي الإيراني؟ وهل يمكن لإجراء حوار شامل حول هذا الأمر بين كل من واشنطن وبكين، أن يفيد في تحقيق هذا الهدف؟ مما لا ريب فيه أن تلك المفاوضات الماراثونية الطويلة التي أجريت مع بيونج يانج، قد أفضت إلى التوصل لحل إيجابي بناء، في لجم خطر سعي بيونج يانج الحثيث والعلني لتطوير الأسلحة النووية، وأن تلك النتيجة لم تحقق النجاح الذي حققته، إلا بسبب التغير الذي طرأ على علاقات كل من واشنطن وبكين. ذلك أن واشنطن قد عادت لتبدي عزماً والتزاماً بدفع المفاوضات المتبادلة بين قادة خمس من الدول وكوريا الشمالية. ولما كنت قد عدت لتوي من زيارة إلى الصين، فقد أتيحت لي فرصة لقاء عدد من المسؤولين الصينيين، والتحاور معهم حول عدد من القضايا. وقد خرجت بانطباعين أساسيين فيما يتعلق بسلوك مسؤولي بكين إزاء إيران. أولهما أن حجم التحولات الداخلية الكبيرة التي تمر بها الصين، يجعلها عرضة لعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الدولي. وأكثر ما يثير قلق بكين، هو ما يمكن أن يترتب من تداعيات انتشار العنف في منطقة الخليج العربي. ولهذا القلق ما يبرره بالطبع، لاسيما بالنظر للتداعيات المالية والسياسية المترتبة عن أي مواجهة أميركية- إيرانية محتملة. أما الانطباع الثاني، فيتلخص في إصرار المسؤولين الصينيين على ضرورة تحلي أميركا بالصبر وسعة الصدر في تصديها لإيران. فخلافاً لما هو الحال في كوريا الشمالية، يلاحظ المسؤولون الصينيون أن طهران تمسكت بموقفها النافي لأي نية في تطوير السلاح النووي. وعليه فإنه من وجهة نظر بكين لا يليق ولا يفيد في شيء، أن تبادل واشنطن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، ما يصدر عنه من عنف لفظي، خاصة أن هذا التبادل لا يصب في نهاية الأمر إلا في خانة تعزيز التأييد الشعبي الداخلي لمواقفه. كما أنه على واشنطن الكف عن إصرارها على فرض شروط مسبقة للتفاوض بينها وطهران. وبدلاً من ذلك يجب تسليط الاهتمام في التفاوض مع طهران على صيغة لتجنب خطر الأسلحة النووية الإيرانية المزعومة. وما إن تبدي واشنطن عزماً وجدية في التفاوض مع طهران، حتى تهرع بكين من جانبها إلى كسر صخرة الأزمة الحالية القائمة بين الدولتين. فلبكين رصيد يعول عليه من العلاقات مع طهران. كما لا تريد بكين للإمدادات النفطية الإيرانية التي تصلها أن تتعرض لأي انقطاع، لاسيما أن الصين في أمسّ الحاجة لهذه الإمدادات اليوم أكثر من أي وقت مضى. وفي المقابل تواصل الصين مد طهران بما تحتاجه من أسلحة ومنتجات صناعية. بيد أن إدخال الصين وجذبها إلى لعب دور إيجابي في حل هذه الأزمة، إنما يتطلب من واشنطن التحلي بمزيد من الصبر الاستراتيجي وسياسة طول النفس مع طهران. وما يحاجج به الصينيون هنا بالذات، أن عزم واشنطن على تشديد العقوبات المفروضة على طهران، لن يجدي فتيلاً كما أثبتت التجارب العملية، وأنه قد يلزم واشنطن اللجوء لتبني خيارات أكثر إيجابية ونفعاً من آلية العقوبات. وفي الجانب الآخر، فإنه لابد من وضع الدور الروسي في حل هذه الأزمة في الاعتبار، رغم ما يحيط به من شكوك. ذلك أن روسيا كثيراً ما أكدت رغبتها في التوصل إلى حل سلمي لهذه الأزمة، إضافة إلى كونها طرفاً في الحوار والتفاوض مع طهران. يضاف إلى ذلك أن نشوب أي نزاع في منطقة الخليج العربي، سوف تكون له آثاره وتداعياته السالبة على المصالح الروسية نفسها، إلى جانب ما تتركه هذه التداعيات على المسرح الدولي إجمالاً. وهذا ما يلزم المسؤولين الروس بالتحلي بالحكمة والحنكة في حساب هذه التداعيات وتفاديها. لكن في السلوك الروسي اليوم ما ينم عن اتجاه متزايد نحو المواجهة وليس التوافق، في محاولة من موسكو للتعويض عن الخسائر الجيوسياسية التي منيت بها منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي. ولذلك فإن الحد من قدرة الولايات المتحدة على الحصول على الموارد النفطية لمنطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى، يحتل أولوية قصوى في جدول أعمال الكرملين الآن. وفوق ذلك، تنظر النخبة السياسية في موسكو إلى التهديدات الجيوسياسية الأخرى، بما فيها التوغل الصيني في بعض أراضي المحيط الروسي الشرقي الغنية بالمعادن. وتنطبق النظرة نفسها على تمدد الولايات المتحدة في الجمهوريات والأجزاء المستقلة حديثاً، والتي خسرتها موسكو في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي. لكن إذا ما وضعنا في الاعتبار أنه يمكن لنشوب نزاع أو موجة من الفوضى والعنف في منطقة الخليج العربي، أن تحدث تحولات درامية هائلة في توزيع القوى الدولية -على نحو يتجاوز ذلك التحول الذي أحدثته الحرب الباردة نفسها- فإنه يلزم الولايات المتحدة تبني استراتيجية تفاوضية شاملة بينها والصين، في ضوء النجاح الذي حققته تجربة تفاوضهما مع بيونج يانج، من أجل التصدي لمواجهة محتملة مع طهران بسبب برنامجها النووي. وهذا هو الوقت الملائم لتبني استراتيجية كهذه، بكل ما لها من أهمية تاريخية. ــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"